7 - كل شيء عن كافكا
مع نصوص كافكا يبدو الحديث عن الراهنية نافلاً، بلا معنى، فالأمر يتجاوز أن تكون آثار الكاتب التشيكي (الألماني، النمساوي) لا تزال مقروءة. إنها، أكثر من ذلك، تثبت يوماً بعد يوم، انتماءها إلى الكلاسيكيات العظيمة، فتغدو منجماً لا ينضب للتفسيرات والتأويلات المتجددة.. أفكار طازجة أبداً، ورؤى بطعم النبوءة، وصور عن العالم مفزعة وصادمة، لكن أمينة ولا ينفك الواقع يصادق عليها مراراً وتكراراً.
بل، وبقدر قليل من المبالغة، نستطيع القول إننا اليوم، ونحن نعيش في ظل عالم يتهاوى تحت مطارق مجنونة، نبدو وكأننا مجرد شخوص في كوابيس كافكا التي حلمها منذ قرن.
ألا نشبه أهالي القرية الذين يعيشون تحت سلطة أسياد «القلعة»، ووفق قوانينهم وتعليماتهم، دون أن يتاح لأي منهم الوصول إلى هذه القلعة أو رؤيتها عن كثب أو حتى معرفة شيء يقيني عنها وعن أسيادها؟ ألا يعيش كثير منا في خضم «محاكمة» عبثية طويلة، بلا قانون ولا قضاة ولا ذنب محدد، وبمصير محتوم: حكم إعدام مبرم سلفاً؟. هل ما زالت حكاية «المسخ»، حيث يستفيق غريغورسامسا وقد تحول إلى حشرة ضخمة، مجرد حكاية خيالية؟ أليس هذا مصير الآلاف الذين يسحقون بلا رحمة كحشرات تحت آلات الحرب الجهنمية؟، ألا يكرر الآلاف يومياً ما فعله بطل قصة «الحكم»، فينفذون بأيديهم حكم السلطة الباطشة فيهم ويغرقون أنفسهم في البحر؟.
لكن رغم هذا الحضور الطاغي لكوابيس كافكا ورؤاه الغرائبية، فإن هناك من يرى أن قراء العربية لم يتعرفوا بعد إلى كافكا.. لم يعرفوا نصوصه معرفة جيدة، وأن كل ما ترجم هو مجرد نسخ ارتجالية عن كافكا لم يوجد أبداً.. كافكا جرى اختزاله وتبسيطه بل وتشويه كلماته، لا سيما أن معظم الترجمات المتناثرة لأعماله جاءت عبر لغات أخرى وسيطة.المترجم والباحث في الأدب الألماني، إبراهيم وطفي، لا يذهب إلى هذا الحد في نقد ترجمات كافكا إلى العربية، غير أن عمله الضخم «فرانز كافكا الآثار الكاملة مع تفسيراتها» يظهر على أنه محاولة في التأسيس لحضور جديد لكافكا في المكتبة العربية، حضور أكثر دقة وعمقاً وأكثر قرباً من الأصل.
يقول وطفي: «في مطلع عام 1963 انتقلت من سوريا إلى أوروبا. كان معي نسخة عربية من المسخ.. في دراستي للأدب الألماني الحديث، في ألمانيا، كان كافكا أحد الكتاب الذين ركزت على دراسة آثارهم. يقال إن من يهتم بكافكا لا يعود في مقدوره أن يتركه. فمنذ ذلك الحين لم تنقطع علاقتي بكافكا، وما زالت كتبه تأسرني».يتألف مشروع وطفي من خمسة مجلدات (بين أيدينا أربعة منها). يحوي المجلد الأول الذي جاء تحت عنوان «الأسرة» القصص الطويلة: «الحكم» و«الوقاد» و«الانمساخ» (اقتراح وطفي كبديل للمسخ) و«رسالة إلى الوالد». أما المجلد الثاني وعنوانه «الذات» فقد ضم رواية «المحاكمة»، فيما ضم المجلد الثالث وعنوانه «المجتمع الصناعي» رواية «المفقود»، والرابع «الكون البشري»، ضم رواية «القلعة»، ومن المفترض أن يضم المجلد الخامس الأعمال القصصية.
يعزز كتاب «الآثار الكاملة» انطباعاً شائعاً وهو أن قصة كتب فرانز كافكا لا تقل متعة وتشويقاً عن القصص التي تحويها هذه الكتب، فقد صدر له في حياته بضع من القصص الطويلة وعدد من القصص القصيرة فقط، أما بقية آثاره فقد صدرت بعد وفاته، وكان قد ترك مخطوطات كتبه لدى صديقه ماكس برود وأوصاه بحرقها، غير أن الصديق لم ينفذ الوصية لحسن الحظ. وحكاية برود هذا مع المخطوطات مغامرة شيقة تذكّر بروايات المغامرات الشهيرة التي تدور حول مخطوطات قديمة، وقد جاءت لتضيف غرابة لعالم كافكا الغريب أصلاً.
عندما توفي كافكا في العام 1924 فإن قلائل هم الذين كانوا يعرفونه ككاتب، وأقل منهم هم الذين كانوا يتوقعون أنه سيغدو واحداً من أشهر الكتاب في العالم.
كيف انتقلت كتبه من أدراج التجاهل إلى مصاف الآثار العظيمة، لتقف بجانب كتب دانتي وشكسبير..؟ يبقى هذا مثار تحليلات وتفسيرات لا تنتهي، بعضها لا يقل كافكاوية عن قصص كافكا نفسها.
وليس أقل من ذلك معارك «النسب» أثارت حول أعمال كافكا، فإلى جانب قراءة ماكس برود الدينية، كان هناك قراءة سارتر وكامو التي جعلت من كافكا واحداً من رواد الوجودية، كما كان هناك قراءة أخرى أنطقت رواياته وقصصه مقولات ماركسية، إضافة إلى قراءات الحداثيين وما بعد الحداثيين وأنصار التحليل النفسي.
وإذا كانت هذه القراءات المتباينة لم تصل إلى إجابات حاسمة فإنها زادت في توهج كافكا وعززت أسطورته.
يقول الكاتب المكسيكي كارلوس فوينتس: «أعتقد أن فرانز كافكا هو الدليل المرشد الذي لا غنى عنه عبر القرن العشرين، فنحن نستطيع أن نفهم هذا القرن من دون فوكنر، من دون بروست، من دون جويس، لكن لا نستطيع أن نفهمه من دون كافكا».
إلى جانب تقدير الجهد الهائل المبذول في عمل إبراهيم وطفي، فثمة تحفظ مشروع لا يقلل من هذا التقدير، فربما نجح وطفي في استثمار معرفته الجيدة بالألمانية ليضبط بدقة متناهية المفردات والإشارات والإحالات الكافكاوية، ولكن أسلوب الصياغة بالعربية افتقد للأسف، وفي مواضع كثيرة، إلى الرشاقة والسلاسة (*).
سلمان عز الدين
جريدة الخليج (24/10/2016)
(*) انصبّ اهتمام المترجم على دقة المعنى وأسلوب كافكا المميز كما هو: موضوعي، واقعي، عملي، يخلو من كل تزويق. وحاول أن ينتج "مادة خاماً" أمينة يأمل أن تقع بين يدي شاعر عربي مقبل، تربطه علاقة روحية بالشاعر كافكا، فيعمد إلى إنجاز ترجمة جديدة لآثاره الفنية الخالدة، مستنداً إلى هذه "المادة الخام"، وجامعاً في ترجمته بين السلاسة والدقة دون أن تفتقد شيئاً من "روح كافكا" وشخصيته وأسلوبه (ا. و.).